ورث الإمام الصادق (ع) كل ما كان لأبيه الإمام الباقر (ع) وأضاف عليه الشيء الكثير مما أعطاه الله، فجمع من الطلاب والتلاميذ ما يُشكل جامعة كبرى من أعظم وأكبر وأهم جامعات التاريخ القديم، وذلك لما وفّرت فترة الانفتاح والانفراج التي حدثت ما بين نهاية الدولة الأمويّة وقيام الدولة العباسيّة التي قامت باسمه، فشهد في زمن إمامته حرية الحركة لنشر معالم الدِّين، وأنواع العلم، وصنوف المعارف، فذُكر أنه بلغ عدد تلامذته، بنقل بعض المؤرخين: أنه كان للإمام الصادق (عليه السلام) اثنا عشر ألف تلميذ، ربَّاهم على العلم والعمل، وأصبحوا فضلاء علماء، وانتشروا في مختلف أنحاء الأرض، وأنَّ مَنْ روى عنه 4000 شخص. (من حياة الإمام الصادق (ع) الإمام الشيرازي: ص60)
ففي رجال النجاشي روى عن محمد بن عيسى قال: خرجتُ إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن علي الوشاء فسألته أن يخرج لي (إليَّ) كتاب العلاء بن رزين القلاء وأبان بن عثمان الأحمر فأخرجهما إليَّ فقلتُ له: أحب أن تجيزهما لي، فقال لي: يا رحمك الله وما عجلتك اذهب فاكتبهما واسمع من بعد، فقلتُ: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمتُ أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإني أدركتُ في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلٌّ يقول: حدثني جعفر بن محمد) (رجال النجاشي: ص40)
ويروي السيد الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله)، فيقول: " الإمام جعفر الصادق (عليه الصلاة والسلام) تمكن في فترة معينة من تأسيس جامعات علمية كبيرة، ونشر العلوم التي يحتاجها البشر، وثقَّف المسلمين علمياً، وطوَّر الأمة الإسلامية في مختلف العلوم، حيث رُويَ عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر: إن المنصور قد كان همَّ بقتل أبي عبد الله (عليه السلام) غير مرة، فكان إذا بعثَ إليه ودعاه ليقتله، فإذا نظر إليه هابَه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه (عليه السلام)، ومنعه (عليه السلام) من القعود للناس، واستقصى عليه أشدَّ الاستقصاء، حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح، أو طلاق، أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون إليه، فيعتزل الرجل وأهله، فشقَّ ذلك على شيعته وصعب عليهم، حتى ألقى الله عز وجل في روع المنصور، أن يسأل الصادق (عليه السلام) ليُتحفه بشيء من عنده، لا يكون لأحد مثله، فبعث إليه بمَخْصرة كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تُشقَّ له أربعة أرباع، وقسَّمها في أربعة مواضع، ثم قال له: "ما جزاؤك عندي، إلا أن أطلق لك، وتفشي علمك لشيعتك، ولا أتعرض لك ولا لهم، فاقعد غير محتشم، وأفتِ الناس، ولا تكن في بلد أنا فيه"، ففشى العلم عن الصادق (عليه السلام) (بحار الأنوار: ج47 ص180)
ويُعلِّق السيد الإمام الشيرازي: "ثم إن العلم هو الأساسٌ في تقدُّم الأمم وتطورها، وفي المقابل من أهم أسباب الاستبداد والدكتاتورية الجهل.. الجهل بالله، الجهل بيوم المعاد، الجهل بفقه الحياة، الجهل بأن الاستبداد يضرُّ حتى الدكتاتور، الجهل بمحكمة التاريخ.. والمتصور أن من أهم أسباب تخلف وتأخر المسلمين في زماننا هذا ناشئ من جهلهم، وقد استغل الحكام الظلمة هذا الجهل وسيطروا عليهم، وقاموا بتأخير الأمة، واضطهادها أكثر فأكثر". (من حياة الإمام الصادق (ع) الإمام الشيرازي: ص55)
وجميل ما لخَّص به جناب السيد المرجع المدرسي في حديثه عن تلك المدرسة الكبرى حيث يقول: " لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن تُوجِّه الأجيال المتطاولة، وتفرض عليها مبادئها وأفكارها، ثم تبني أمة حضارية مُتوحِّدة لها كيانها وذاتيتها، مثلما صنعته مدرسة الإمام الصادق (ع)، إن من الخطأ أن نُحدِّد إنجازات هذه المدرسة فيمن درس فيها وأخذ منها من معاصريها وإن كانوا كثيرين جدًّا، وإنما بما خلّفته من أفكار، وبما صنعته من رجال غيرّوا وجه التاريخ ووجهوا أمته، بل وكوَّنوا حضارته التي ظلت قروناً مستطيلة.
لقد أثبت التاريخ أن الذين استقوا من أفكار هذه المدرسة مباشرة كانوا أربعة آلاف طالب، ولكن ذلك لا يهمنا بمقدار ما يهمنا معرفة ما كان لهذه المدرسة من تأثير في تثقيف الأمة الإسلامية التي عاصرتها والتي تلتها إلى اليوم" (الإمام الصادق (ع) قدوة وأسوة: ص17)
هذا الرقم الكبير، والعدد الجم من التلاميذ والطلاب في ذلك العصر أي قبل حوالي ثلاثة عشر قرناً من الآن ليس بالأمر السهل أبداً، ولذا قلنا بأنها جامعة من أعظم جامعات التاريخ التي خرَّجت كل أولئك الأعلام والفقهاء والعلماء والأدباء الذين كان واحد منهم جابر بن حيان الكوفي الذي كتب خمسمائة رسالة في الكيمياء عن الإمام الصادق (ع) وهو إلى اليوم رمز هذا العلم.
فشهادة الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) كأنما هي شهادة الأمة الإيمانية، لأنها بمثابة شهادة المشروع العلمي والحضاري العملاق في الأمة الإسلامية، وثلمته في الأمة الإسلامية لا تندمل إلى يوم القيامة لما له من تأثير كبير على الحياة برمتها والأمة التي كان يقودها ويسددها ويعلمها في مختلف العلوم، ويُفيضُ عليها ما يكفيها لتكون أمة حضارية من أرقى الأمم في هذه الدنيا، ولكن الحكام والسلاطين يريدون الأمة بلا إمام ليتقمصوا هم هذا الثوب الإلهي كما فعلت سلاطين قريش منذ البداية.